خواطر في قراءات شعرية




دفع اليّ استاذي الفاضل وصديقي العزيز سليمان مرقس مشكورا بهدية قيمة هي ديوان شعره الاول بعنوان: "صرخات في وجه الزمن المعطوب" بحلّة جميلة. على صفحته الاولى كتب الملحوظة التالية: "الرفيق الدكتور الغالي والمثابر أهديك باكورة اعمالي الشعرية لعلها تنال بعض رضاك".
شهادة اعتز بها جعلت دموع العين تسيل رقراقة لما تحمّلني هذه العبارة من مسؤولية صغيرة – وهي عندي كبيرة – ولكنها خدشت شديد تواضعي، فمن انا حتى تنال تلك الاعمال الشعرية بعض رضاي! وهي في نظري عملاقة المفاهيم والمعاني عميقة الرسالة مرهفة الحس والوجدان، سامحك الله يا ابا العلاء وامدّ في عمرك لتنساب بحور الشعر وكلماته من ينابيع بنات افكارك الكامنة كمون الماء في العود الاخضر، وكم عكس هذا الاهداء واسعدني مدى ذلك الحب المتبادل بيننا، والله على ما اقول شهيد.
ليس بوسعي ان اتعرض في هذه العجالة لمناقشة اسلوب الشعر او ديباجته او شكله، او موسيقاه واغراضه ولا بحور الخليل بن احمد تاركا الامر والقضية لذوي الامر ولمختصيها وهم في كثرة كاثرة، بل سأتطرق لافكار ومواقف واخلاقيات واحاسيس تدور في الفلك الانساني الرحب وردت في تلك الصرخات علها تصل الى ما ابعد من صداها وتغور في تلك النفس البشرية ليعمل معولها فيها مهذبا ومشجعًا ومعلمًا ومنميًا من اجل رقيّها وسعادتها، فرحم الله امرأ عرف قدره، فعبدكم لا ناقد ولا يتعاطى انتاج الادب بل ما هو الا متذوق – او يحاول – متواضع على قدره ولبعض الادب؟ ولربما الكتابة وصناعتها ترف يقف الركض وراء لقمة العيش بكرامة حاجزا مانعا ظالما في طريقها؟
أبو العلاء -الاستاذ سليمان مرقس – هو الانسان، الشاعر، مرهف الحس متألقه ومتوقده الى ابعد حدود الذات الانسانية النقية، عميقة التأمل حتى ثمالة الالم والامل، الحب والكره، الغضب والسكينة، الفوران حتى الثورة العارمة، اصيل التواضع في كبرياء، نسر يحلق في فضاء الكلمة واللغة والمعنى، يُغرق في شعره ما حوله ومن حوله يغمره مشاعر وأحاسيس انسانية جياشة صافية كعين الديك اصبحت في ايامنا عملة نادرة؟ يستطيع بقصيده ان يتملكك فيطير بك الى عنان السماء او يطأ بحسِّك الى حضيض الحضيض على المستوى الروحاني النفسي وفي الامر تشابك وتداخل وتضاد جِدّ خطير!
ولقد صدق شاعرنا واديبنا د. سليم مخولي حين قال عنه:

جناحُ للذري يعلو مغامر
وحبٌ للورى في القلب عامر

أرؤية ثائر ام صدق رؤيا
على الظلماء تحدوها بشائر
هنيئا ما نظمت من القوافي
فانك قبل قول الشعر شاعر

عرفته وأنا طفل يافع على مقاعد الدراسة الابتدائية وله في نسيج حياتي خيوط كثار فترك بصمات اصابعه في تربيتي وتنشئتي، مما استفيد منه حتى الآن في معترك الحياة وهمومها وسبر اغوارها ولذائذها محاولا التأقلم لها والتأثير عليها والتغيير فيها قدر المستطاع ولكن بحزم وبمثابرة متمثلا بقوله:

إرفع بصوتك والتحق بمسيره
يصبو اليها يافعُ وكهيلُ

ما قيمة الانسان دون كرامةٍ
لا الذل يمحو لا الهوان يزيلُ

تابعته صديقا بعد ان اشتد وصلب عودي، ومما زاد في اواصر الحب والمودة بيننا انتماؤنا لنفس الفكر والخط السياسي، فلا استطيع الا ان اكون متحيزا لما سأقوله وذا موقف، الامر الذي اراه لا يضيرني بشيء.
أسلفت في ما قلت انني لست ناقدا ادبيا بل متذوقا متوضعا ومحبا للادب وخصوصا الشعر منه، وقد تابعت على اجتهاد قصائد ابي العلاء عبر الصحف متلقطا اياها ومحاولا قصها والاحتفاظ بها معجبا بجزالة شعره وقوته وجميل السبك فيه وصدقه وقدراته الادبية، ولا اخفيكم سرا ان عزّ عليّ وآلمني عتبه الصادق على صحيفتنا الغراء "الاتحاد" علنا نفلح يوما في رأب هذا الصدع الآني وهو من قرائها اليوميين والمثابرين.
تراه في بعض من اشعاره عربيا قوميا يعتز بعروبته وقوميته وذلك الماضي والتراث الزاخر والحضارة البراقة التي أضاءت بوهجها وجه البسيطة فيقول في قصيدة "القفز بعيدا عن قضايانا":

مع إننا والله نملكُ طاقة
شهدت لها بعد الفرنج هنودُ

وبأن ماضينا العتيق مشرفٌ
ارث عظيمٌ رائعٌ مشهود


وهو على تمسكه بالعابر من الزمان في الرقي الحضاري الذي وصلت اليه الامة العربية متكئة على اسس العدل والعلم وتحفيزه في ظل حرية فكرية منفتحة رافقها حركة عمرانية وتطور مهول. هذا الافتخار بالعهود القديمة وذلك الاعتزاز الذي يسري في شعره ليشكل ركيزة للوثوب الى المستقبل ويرمي الى هدف منشود هو ما حفّز الامة على النهوض ودفعها في مضمار التقدم وبهذه الروح المنتشية ينظم:

بردى هنا والشعر والخيام
والمجد والاطلال والاحلام

في كل ضاحية وكل مدينة
اثر تولى صدقه الالهام

فهنا المعلم شادهن مظفر
وهنا المراسي مدّهن همام


هذا الامر لا يمكن ان يكون او يرسخ الا في مجتمع اساسه العدل والأمن والطمأنينة والسلام والتآخي والوحدة وحب المصلحة العامة التي هي مصلحة كل فرد فيقول:


نشرت هناك عدالة مشهودة
ساد الهدوء وطبقت احكام

حتى استقر الوضع ينعم آمنا
واستتبعاه تطور ونظام

واذ نتابع المسيرة نصل الى مرحلة اكثر تطورا من الناحية الفكرية شعر صاعد يرقى الى المفهوم الاممي، واخوّة الشعوب وروح التضامن وانطلاقه لا يغيب، هو المساواة الانسانية التي ما يوحدها لبناء سعادتها ورقيها اكثر مما يفرقها لا يميز بين لون او جنس او عرق قاطعا الحدود الجغرافية الى الطرف الآخر من العالم، فراح يصدح لبازِ لاباز الرئيس الوطني التقدمي ايفو موراليس بعد انتخابه في قصيدة "في فضاء لاباز" فيقول فرحا للامر مهللا له:


نور تفجر ام هو البركان
طربت لوقع هديره الاركان

(ايبو) وفوز بالرئاسة حاسم
غنّى الصديق وولول السرحان

وينتقل الى بلاد اخرى في امريكا اللاتينية فيقول في قصيدة "نحن وأرتيغا"


ما كان ارتيغا ربيب سلالة
حتى يكون مؤنفا متعاليا

او كان يعتمد التدين حيلة
ومخدرا يبقي الحشود جواثيا

فيغش جيش الجائعين بموعد
ويضيع في نفق الضلالة عاريا

بل قاد ثورة حاطب ومعذب
ليعيد حقا للرعية غاليا


فيكون قد مزج عضويا بين حبه لقوميته ولشعبه العربي وبين أمميته سائرا على هدى مقولة رفيقنا الراحل وعزيز قلوبنا القائد توفيق زياد حين قال:
"نحن لا ندّعي اننا افضل شعب من شعوب الارض، ولكن ليس هناك من شعب أفضل من شعبنا ولو خُيّر لنا ان نولد من جديد لما إخترنا، الا ان نولد فلسطينيين في سهول وجليل وسواحل هذا الوطن الجميل".
انها قمة السعادة والتمازج قوميا وأمميا
كما يعهد الكفارسة ابا العلاء يقول شاعرنا كل ما يعتقد دون مواربة – كما يفعل اكثر الناس – فيناطح الكبار بانحرافهم عن جادة الحق والصواب فيقول لعبد الحليم خدام نائب الرئيس ووزير الخارجية السوري السابق معبرا عن شعوره البسيط بعمقه بعيدا عن الزيف والمواربة بعد ان رمى خدام نفسه في احضان اعداء وطنه.

ماذا سيمحو العار يا (خدّام)
الدمع ام دجل طغى وكلام

عبد ولكن لست مثل (بلالنا)
في صدرك البغضاء والاسقام


فعنده العظمة ليست في المناصب مهما علت ولا في السلطة مهما استشرت بل ما هي الا وقف على الارواح الكبيرة بجهادها وعزتها واخلاصها وتفانيها في خدمة وطنها والانسانية، ونحن نعلم ان هذا الكلام يقع عند اذهان البعض موقع الصدأ من الحديد، لا يزيد نعيقهم الا نعيق!!
بعد النكبة الكبرى خرج الفلسطينيون، افواجًا من الفردوس المغتصب وهاموا على وجههم وهذا الجرح النازف ما زال يضيف الى آلام وحسرات شاعرنا آلاما وحسرات ما يفت في روحه الشفافة والملتاعة عذابا فيقول:

أهلوك حيفا بالشتات تفرقوا
ما زال حبك ثابتا يتخمر

ترنو اليك قلوب كلها هَيم
هل تمحّي ذكراك او تتبخر؟
ويتابع:
حيفا وشوق في الفؤاد مرسخ
حيفا اليك قلوبهم تتمحور

زادتهم الارزاء شوقا جارفا
حق الرجوع شريعة لا تنكر

ما مات حق والرجال كفيلة
ما العتم الا بالشروق يبشر!

فيقف صنديدا لا تلين له قناة بمطالبته بحقوق شعبه وبلاده وعلى رأسها حق العودة المقدس بكل العرف والقوانين لا يتنازل قيد أنملة فيه! لا يفقد الامل لحظة حتى في هذا الزمن المعطوب.
إنحاز ابو العلاء دائما وابدا الى عامة الناس الى بسطائهم وفقرائهم بالذات وهو الذي وبحكم عمله السابق معلما ومربيا قد استطاع معرفة هذا عن ذاك، اولئك الذين يحيون على سجيتهم البعيدين كل البعد عن التصنع والزيف، ولعله من اللافت للنظر دفاعه المستميت عن الطبقات العمالية والفقيرة التي تكسب قوتها بعرقها ودمها حتى يرقى به الامر ودون مواربة الى عداء من يعاديهم حتى على مستوى التعامل اليومي وهمومه، ولعل معرفتي به عن قرب تجعلني على يقين كم يؤلم ويؤرق ابا العلاء هذا الامر فوضع اصبعه على الجرح تماما واصبح عدوا لدودا واضحا لتلك الطبقات الغنية والرأسمالية التي تمص خيرات الشعوب وثرواتها، وترمي بها الى مهاوي المرض والفقر والفاقة والجهل والردى غير آبهة، الا لجيوبها التي لا تعرف لها قرارًا طمعا وجشعا وحشيا مفرطا فيقول في قصيدة "وقفة على النيل"

فأعيد نهج المارقين وعهره
نهبوا وغالوا في الفساد واطنبوا

وطغى عبيد المال سال لعابهم
صالوا وجالوا كالضباع وغرّبوا

فكتبت في هذا حزين قصائدي
هل ظل يجدي ما نقول ونعرب!؟

ويقول:


يا عامل الطوب الوفيَّ لاهله
ما كنت تشكو انك الثعبان
وبدأت تشعر ما يضر بأمة
ظلت تمص دماءها الغيلان

أستميحكم عذرا على الاطالة وافشي لكم سرا ان ما كتبت اليوم لم يشبع روحي وسأتابع حول القضية الاجتماعية والالم، وحول مسالك مرفوضة عند استعمال الدين بشكل غير صحيح والالم، والحب والالم فصوت الالم جِد عميق من خلال هذا السفر القيم "صرخات في وجه الزمن المعطوب" ولكنه لا ينسى الامل ابدا، فأبو علاء:

بحر في أحشائه الدر كامنٌ
وسنسأل الغواص عن صدفاته
- مع الاعتذار لحافظ ابراهيم –
والى لقاء.