هكذا عرفت المرأة وتعرفت عليها !؟.... عرفتها أماً حنت علي وما بخلت بلمساتها الحنونة تخفف عني الألم عند المرض... تضمد جروحي بعد كل كبوة... وتضفي على حياتي من أنسها ورباطة جأشها ألواناً أطيافها خطوط متناسقة من السكينة والرحمة... وتحول كل ما يحيط بي من خوف إلى واحة من الهدوء والإيمان.



تغدق عليّ بكلماتها الرقيقة العذبة وأغنياتها حتى أنام.



أرى في عيونها قلق عجيب من نوائب الدهر نحوي... فتقرأ عليّ نصائحها.... وتعلق على قميصي الداخلي بجانب القلب آيات من القرآن مخطوطة بحرص ومغلفة بإحكام وكأنها تخاف من الكلمات أن تفر هاربة من وظيفتها بطرد الأذى عني وحفظي من كل مكروه.



عرفتها أختاً تتناوب على العناية بي كلما انشغلت أمي عني لأحد أعمالها... تعلمني وتقرأ علي واجباتي المدرسية... تشعرني بقيمة وجودي قربها رجلاً كلما احتاجت لي في خروجها للسوق.



تدفع عني غضب والدّي إذا ما أسأت التصرف... تخبئني خلف ظهرها لتتلقى بالنيابة عني التأنيب وفي بعض الأحيان الضرب !.



وتقص علي القصص الطريفة، فتملأ خيالي الغض بصور الأنهار والطيور والأشجار وكل أنواع الحيوانات التي أعرفها، والتي لا أعرفها... وتجعلهم عقلاء يتكلمون بلسان البشر... ومن القرآن آيات تفيض عليّ بالأمان والسلام.



عرفتها صديقة تشاركني مقعد الدراسة في الحضانة، حيث كنت أبرع بتقليد الأبطال في القصص الخيالية التي سمعتها لأجذب إلي اهتمامها، ولم أكن اعرف بأن الفتاة لا تهتم بتلك الحركات البهلوانية، بالقدر التي تهتم بمشاركتنا قطع الحلوى التي نحملها... فكنت أصاب بخيبة الأمل من كونها لم تهتم لما أعرضه عليها من مهارة بالقفز، رغم تعرضي للكدمات وانشغالي عن مدرسي من أجلها بتوزيع الابتسامات !!!.



عرفتها جارة في الحي، تطل علي من شرفتها بصمتها المعتاد ونظراتها المليئة بالفضول !؟.



عرفتها قريبة تشاركني حصاد "شقائق النعمان" في الربيع، ومطاردة الفراشات في كل مرة نخرج في نزهات الصيف العائلية.



تستمع لي أقص عليها وفي كل مرة قصة غريبة مليئة بالمفاجآت... فأثير فضولها فيما أروي... وعندما أتوه في السرد وأضيع عن الحل كانت تشاركني في البحث عن نهاية !؟.



فأكتشف سذاجتي... لأنها تعرف بأن كل ما قصصته عليها هو من وحي الخيال ... فأضحك لغبائي وأصفق لها نباهتها !؟.



عرفتها فتاة شابة يفيض من عينيها بريق غريب ينم عن الفطنة والعشق... وعندما التقى نظري بها صاحبتها بابتسامة مليئة بالإعجاب، فأغرمت بها... ورغم اهتمامها الكبير بي، فأنا لا أعرف حتى الآن إذا ما كانت قد أغرمت بي وبادلتني مشاعري وحبي...



لأنني وخلال تعلقي بها لم يكن لدي الوقت الكافي لأسألها عن مشاعرها اتجاهي !...



فلقد كانت اللحظات القليلة التي كنا نسرقها بعيداً عن أعين الأهل قصيرة جداً... جداً -أم هي كانت تبدو كذلك- لدرجة أنها لا تسمح لنا إلا بإلقاء التحية وتبادل النظرات والابتسامات، فالصمت هو من كان يخطف الزمان والمكان، ليحملنا إلى عالم الغيب ويلقي علينا بثوبه السحري فنذوب مع الأشياء التي تحيط بنا حتى نختفي تماما عن الأنظار؟؟ !!.... أو هكذا كان يخيل لنا؟.



عرفت بعدها بأن حب المراهقين أكثر صدقا وعفوية وبراءة... وبأن القصائد التي كنت أقرؤها عن الشعراء العذريين لم تكن وهمية... وبأن البطل فيها يغفر لحبيبته كل هفواتها... ولا يرى فيها رغم مرور السنين إلا لحظات السعادة التي غمرت قلبه وحفرت في كيانه ؟؟؟ !!!.



وبأن مشكلتنا مع هذا الحب الخاطف هي أننا لا ندركه في حينه ولا نعترف به، وسرعان ما نغلق باب القلب دونه !؟.



فكما تحل علينا الجراءة والقوة للاعتراف به والدفاع عنه بغرور وكبرياء -على أنه هو من سيحقق لنا وجودنا ويفرض على الآخرين استقلالنا- ينتابنا نفس الغرور والكبرياء بأننا لن نسمح لمن يقاسمنا الحب بالتصرف بحياتنا ومستقبلنا ؟؟؟.



ولا نعترف بقيمة ذلك الحب وصدقه وعفويته إلا بعد أن نخوض تجارب أخرى نلتقي فيها ولأكثر من مرة مع من نعجب به ونحبه ونعاشره... لنكتشف فيما بعد بأن كل العلاقات التالية لذلك الحب هي علاقات مبنية على الخداع والكذب والمصالح !.



وبأن حب المراهقين ذاك يبقى من بين كل ما عرفه وعاشره هو الأنبل والأسمى بالرغم مما يجلبه في بعض الأحيان من أذى للأهل وحسرة للمحبين !.



فطوبى لمن عرف ذلك الحب الطاهر وطوبى لمن سعى للحفاظ عليه وتوجه بزهور وثمرات تملأ حديقة حياته بالهناء والحبور.



وقصصي مع الحب هي ككل القصص المفعمة بالإعجاب وتبادل المشاعر الرقيقة الشفافة المليئة بالأماني والأحلام الوردية الصادقة... وتكون مشحونة بالحاجة إلى وجودنا بالقرب ممن نحب متجاوزين كل المحاذير والمخاطر، وتكون دافعا لنا لصنع المعجزات، محفزة للهمم ومثيرة للعزائم.



حيث تجعلنا وفي كل مرة أقرب ما نكون إلى تحقيق آمالنا وأحلامنا بالرغم مما نصاب به من غشاوة غريبة عجيبة تجعل من تلك القصص أجمل حدث يصيبنا في حياتنا... وممن نحب أعظم واخلص ما وجد في الكون!.



ومع إنني لا اعترف إلا بقصة واحدة لا غير وهي تلك التي تحط رحالها علينا فجأة وبدون سابق إنذار.. وفي لحظة من الزمان والمكان لا يكون لنا فيه أي دور، أكثر من كوننا ضحية النظرة الأولى التي عادة ما تصاحبها الابتسامة الأولى وبلمح البصر، نكون قد تلقينا الشحنة الكافية من الكهرباء الإلهية.. حيث نفقد السيطرة على مشاعرنا ونصبح بعدها عرضة للتسليم بكل ما نملك.



فنفيض بكل ما في القلب لمن نحب دون أي تردد وتكون الغلبة فيها لمن هو اقل تأثراً بالحدث!!!.



إلا أنني لا أنفي بتاتا ما تحمله القصص والتجارب الأخرى من فائدة وما تتركه على سحنات حياتنا من آثار سلبية كانت أم ايجابية!؟.



وكنت أتساءل لماذا لا يعترف الإنسان إلا بقصة واحدة وحيدة في حياته ويبقى معلقاً بأهدابها وسجيناً لتلك اللحظات الخيالية التي كان قد عرفها؟!...



هل لأنه قد تعرض لها وعايشها وهو في مرحلة المراهقة !؟...



تلك المرحلة التي تطفق فيها المشاعر الصادقة الصافية الخالية من المصلحة ويكون الطرفان فيها عفويان في تصرفاتهما، مخلصان لوعودهما وآمالهما وتطلعاتهما... مستجيبان فيه لنداء القلب!؟.



هل هذا هو ما يسمونه الحب العذري ؟؟؟.



يبدو كذلك.