الشيخ. أحمد فريد
الاستغفار هو طلب المغفرة، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها، أي أن الله - عز وجل - يستر على العبد فلا يفضحه في الدنيا ويستر عليه في الآخرة فلا يفضحه في عرصاتها ويمحو عنه عقوبة ذنوبه بفضله ورحمته.
وقد كثر ذكر الاستغفار في القرآن، فتارة يؤمر به كقوله - تعالى -: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المزمل/20)، وتارة يمدح أهله كقوله - تعالى -: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ)(آل عمران/17)، وتارة يذكر الله - عز وجل - أنه يغفر لمن استغفره، كقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء/110).
وكثيرًا ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلب والجوارح، وحكم الاستغفار كحكم الدعاء، إن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه لاسيما إذا خرج من قلب منكسر بالذنوب، أو صادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات، وأفضل الاستغفار أن يبدأ بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل ربه بعد ذلك المغفرة، كما في حديث شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت "(رواه البخاري).
وقوله: " أبوء لك بنعمتك علي " أي أعترف لك، و " أبوء بذنبي " أي أعترف وأقر بذنبي.
وفي حديث عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ قال: قل: " اللهم إني ظلمت نفسي ظلمـًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم "(رواه مسلم).
ومن أفضل الاستغفار أن يقول العبد: " أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ". وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من قاله: " غفر له وإن كان فر من الزحف ".
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: إن كنا لنعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مائة مرة يقول: " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور "(رواه الترمذي وأبو داود والحاكم).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة "(رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة).
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنه لَيُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة "(رواه البخاري ومسلم).
وقد ورد في حديث أنس أهم الأسباب التي يغفر الله - عز وجل - بها الذنوب، فقال - صلى الله عليه وسلم - قال الله - تعالى -: " يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئـًا لأتيتك بقرابها مغفرة "(رواه الترمذي).
وقد تضمن هذا الحديث ثلاثة أسباب من أعظم أسباب المغفرة:
أحدها: الدعاء مع الرجاء: فإن الدعاء مأمور به موعود عليه بالإجابة، كما قال - تعالى -: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غافر/60)، فالدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه وانتفاء موانعه، وقد تتخلف الإجابة لانتفاء بعض شروطه أو وجود بعض موانعه، ومن أعظم شرائطه حضور القلب ورجاء الإجابة من الله - تعالى -، فمن أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنبـًا لم يرج مغفرة من غير ربه، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره فقوله: " إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي " يعني على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظمني ذلك ولا أستكثره.
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء"(رواه مسلم).
فذنوب العباد وإن عظمت فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها، كما قال الإمام الشافعي عند موته:
وَلمّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَت مَذَاهِبِي *** جَعَلْتُ الرَّجَـا مِنِّي لِعَفْوكَ سُلَّمـًا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمـَّـا قَرَنْتُهُ *** بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَـفْوُكَ أَعـظَمَ
الثاني: الاستغفار: فلو عظمت الذنوب وبلغت الكثرة عنان السماء ـ وهو السحاب، وقيل: ما انتهى إليه البصر منها ـ ثم استغفر العبد ربه - عز وجل -، فإن الله يغفرها له.
روي عن لقمان أنه قال لابنه: يا بني عود لسانك اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً.
وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي طرقكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متي تنزل المغفرة.
الثالث: التوحيد: وهو السبب الأعظم ومن فقده حُرِمَ المغفرة، ومن أتى به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة.
قال الله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء/166)، قال ابن القيم - رحمه الله - في معنى قوله: " يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئـًا لأتيتك بقرابها مغفرة" يُعْفَى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك، فلو لقى الموحد الذي لم يشرك بالله ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضةٌ، والدافع لها قوي، ومعنى " قُراب الأرض " ملؤها أو ما يقارب ذلك، ولكن هذا مع مشيئة الله - عز وجل -، فإن شاء غفر بفضله ورحمته، وإن شاء عذب بعدله وحكمته، وهو المحمود على كل حال.
قال بعضهم: الموحد لا يلقى في النار كما يلقى الكفار، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار، فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه وقام بشروطه كلها بقلبه والسانه وجوارحه أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيمـًا وإجلالاً ومهابة وخشية ورجاء وتوكلاً، وحينئذٍ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات، فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضعت ذرة منه على جبال الذنوب والخطايا لقلبتها حسنات، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كما أن الله - عز وجل - لا يقبل طاعات المشركين فنرجو أن يغفر الله - عز وجل - ذنوب الموحدين أو معناه.
الآثار في فضل الاستغفار:
قالت عائشة - رضي الله عنها - : طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا. وقال علي - رضي الله عنه -: ما ألهم الله - سبحانه - عبدًا الاستغفار وهو يريد أن يعذبه.
وقال قتادة - رحمه الله -: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار. وسمعوا أعرابيـًا وهو متعلق بأستار الكعبة يقول: اللهم إن استغفاري مع إصراري لَلَؤمٌ، وإن تركي استغفارَكَ مع علمي بسعة عفوك لعجزٌ، فكم تتجبب إليَّ بالنعم مع غناك عني، وكم أتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك، يا من إذا وعد وَفّى، وإذا أوعد عفا، أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين.لكن قوله: " إذا أوعد عفا " مخالفٌ لعقيدة السلف - رضي الله عنهم - فوعد الله - عز وجل - ووعيده حق، كما قال - تعالى -: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ)(ق/29). فهو - سبحانه - إن شاء عفا وإن شاء عاقب، نسأل الله المغفرة والعفو والعافية.