ابتسم مرتين ثم بـكى |
ابتسم مرتين ثم بكي ولم أدري لماذا ابتسم ولماذا بكى؟ جلست بجوار عمي محمود العجوز الذي يبلغ من العمر خمس وخمسون عاما، وأخذ يتحدث معي عن حياته السابقة، وكيف أنه كان يحيا دائما بحكمة وصبر ويتعامل مع أمور الحياة وخاصة المادية منها بحكمة وتدبير، ولكن عمّ محمود أخبرني أنه في السنوات الثلاث الماضية لم تعد حكمته تجدي شيئا، ولم يعد يستطيع أن يدبر أمور معيشة أسرته الصغيرة، وعجز تماما عن الوصول لحل معادلة الدخل والإنفاق مما يهدده فعليا بالعجز عن القيام بمؤونة أسرته، ويضطر في نهاية الأمر لمدّ يده بداية بالسلف وربما نهاية بالسرقة والرشوة. ولأن عمّ محمود رجل عزيز النفس يعجز عن أن يمدّ يده لغير الله، ولأنه طوال سنوات عمره الوظيفية عرف عنه الاستقامة والنزاهة فمن الصعب عليه أن يلوث كل تاريخه وأن يشوّه صورته المضيئة أمام عينيه قبل أعين الآخرين، واستمعت إليه وأنا أتابع ابتسامته التي ظهرت وهو يحكي عن تفاؤله مع كل حكومة جديدة، ثم يكتشف أنها أسوأ من التي كانت قبلها، ثم تابعت ابتسامة ثانية ظهرت وهو يسمع تصريحات المسئولين عن التحسن الواضح في معدلات الاقتصاد، ثم فوجئت بدموعه الصامتة التي أنكرها وقال لي أنها حساسية تصيبه أحيانا. وأدركت أن عمّ محمود يواجه مأزقا تاريخيا هو وكل الشرفاء من أبناء الطبقة الوسطى، وأخبرني في إحدى المرات الأخيرة التي التقينا فيها أن أجواء فيلم (بداية ونهاية) تخيم على معظم الأسر المصرية. ويبدو أن الشرفاء لم تعد لديهم قدرة على الحياة في عصرنا، ورغم أني كنت أعتز بعمي محمود إلا أنني حينما علمت بخبر وفاته المفاجيء استرجعت وقلت "ارتاح وأنقذه الموت من ذل الحاجة". وحينما عدت من مراسم دفنه اشتريت إحدى الصحف وفوجئت بتصريحات جمال مبارك عن الرخاء الذي ننعم به فتذكرت عم محمود وابتسمت مرتين ثم بكيت. |